التأرجح بين المفرد والجمع فى مثل الذى استوقد نارا
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ البقرة 17
فى الاية السابقة يتحدث القرآن عن الذين اشتروا الضلالة بالهدى , وفى هذه الاية اراد القرآن ان يشبههم فضرب مثلا , ووقع الكاتب فى اخطاء لغوية جسيمة تبعد الاية عن البلاغة والفصاحة.
ان الكاتب اراد ان يقول:
مثلهم كمثل الذى استوقد نارا , فلما أضاءت ما حوله , ذهب الله بنوره وتركه فى ظلمات لا يبصر
ويمكن صياغة ما كان الكاتب يريد ان يقوله بصورة أخرى:
مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا , فلما أضاءت ما حولهم , ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون
هذا ما يفهم من نص الاية , وهذا ما فهمه المفسرون وجاهدوا فى توصيله , لكن اذا نظرنا للبناء اللغوى للاية , نكتشف فساد التركيب وعدم تمكن الكاتب من اللغة
حيث شبه الذين اشتروا الضلالة بالهدى برجل (مفرد) اوقد نارا وعندما اضاءت النار ما حوله ( مفرد) . ماذا حدث؟ ما خبر ذلك الرجل؟ اذ بباقى الاية تنتقل فجأة للحديث عن رجال (جمع) ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات !! وتتركك الاية حائرا منتظرا لخبر ما حدث للرجل الذى استوقد نارا. فان قلت ان الله ذهب بنورهم وتركهم فى ظلمات , نسأل : أليس هذا ركاكة لغوية بل عجز لغوى فى التعبير لان الخبر يأتى بصيغة الجمع بينما مبتدأه مفرد؟
وان قلت ان ضمير"الذى" فى " الذى استوقد نارا" يقصد بها الذين , وهذا هو معظم تفسير المسلمين , بحجة ان هذا اسلوب عند بعض قبائل العرب , نسأل: لو افترضنا صحة هذا الاستخدام اللغوى عند العرب لجواز ان تكون " الذى" تعنى " الذين" :
فلماذا أتت الاية بصيغ مفردة مثل "استوقد" و "حوله" بعد ضمير"الذى" الجمع؟
فلو كان ذلك كذلك لقالت الاية: "كمثل الذى استوقدوا نارا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهم" !!!
وخلاصة الامر
بالآية خطأ لغوى حيث كان ينبغى ان يستمر الكاتب فى استخدام صيغة المفرد للنهاية فى المثل فيكون :
مثلهم كمثل الذى استوقد نارا , فلما أضاءت ما حوله , ذهب الله بنوره وتركه فى ظلمات لا يــبصر
وإما فكان ينبغى ان يستخدم صيغة الجمع للنهاية فى المثل فيكون:
مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا , فلما أضاءت ما حولهم , ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون
ان ترقيع الجملة ما بين مفرد وجمع يترك السامع حائرا هل يعود الجمع على المفرد أم ان المفرد يقصد به جمع ؟ والغريب انهم يقولون عن ذلك بلاغة !! فهل صارت الركاكة بلاغة؟ ان هذا بعيد كل البعد عن البلاغة وحسن التركيب.
ويعلق جرجس سال فى كتابه ( اسرار عن القرآن) على هذه الاية :
" لو أراد بالذي في هذا الموضع معنى الذين لقال الذي استوقدوا كما قال الذي خاضوا ولكنه قال استوقد بالأفراد فبقي الكلام بعد ذلك ناقصاً لا يفيد وذلك لسقوط جواب " لما" إلا أن المفسرين الذين لا يعجزهم شيء من التأول قالوا أن الجواب محذوف للإيجاز وأمن اللبس فأي إيجاز أشد إخلالاً بالبلاغة من هذا الإيجاز؟ أم كيف يؤمن اللبس والسامع لا يدري ما هو المحذوف لعدم الدلالة عليه في ما بقي من الكلام وقد قرر ائمة البيان منهم أن ما لا يفهم إلا بذكره لا يجوز حذفه ولا سيما إذا كان هذا المحذوف مما يوقع في الكلام لبساً ويزيله عن معناه ويحيله إلى غير المراد منه فإن جاز تأول المفسرين لم يبق رطانة ولا سفسفة إلا ويمكن عدها فصاحة"
واقدم الان نماذج من تفسيرات العلماء , لترى كيف تفننوا فى اخفاء الركاكة اللغوية , ولكن كل محاولاتهم مردود عليها كما وضحنا أعلاه
الجلالين
"مَثَلهمْ" صِفَتهمْ فِي نِفَاقهمْ "كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ" أَوْقَدَ "نَارًا" فِي ظُلْمَة "فَلَمَّا أَضَاءَتْ" أَنَارَتْ "مَا حَوْله" فَأَبْصَرَ وَاسْتَدْفَأَ وَأَمِنَ مِمَّنْ يَخَافهُ "ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ" أَطْفَأَهُ وَ جُمِعَ الضَّمِير مُرَاعَاة لِمَعْنَى الَّذِي "وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ" مَا حَوْلهمْ مُتَحَيِّرِينَ عَنْ الطَّرِيق خَائِفِينَ فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ أَمِنُوا بِإِظْهَارِ كَلِمَة الْإِيمَان فَإِذَا مَاتُوا جَاءَهُمْ الْخَوْف وَالْعَذَاب
بن كثير
وَقَالَ بَعْضهمْ تَقْدِير الْكَلَام مَثَل قِصَّتهمْ كَقِصَّةِ الَّذِينَ اِسْتَوْقَدُوا نَارًا وَقَالَ بَعْضهمْ الْمُسْتَوْقِد وَاحِد لِجَمَاعَةٍ مَعَهُ وَقَالَ آخَرُونَ الَّذِي هَاهُنَا بِمَعْنَى الَّذِينَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ هُمْ الْقَوْم كُلّ الْقَوْم يَا أُمّ خَالِد قُلْت وَقَدْ اِلْتَفَتَ فِي أَثْنَاء الْمَثَل مِنْ الْوَاحِد إِلَى الْجَمْع فِي قَوْله تَعَالَى" فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ . صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" وَهَذَا أَفْصَح فِي الْكَلَام وَأَبْلَغ فِي النِّظَام وَقَوْله تَعَالَى" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ " أَيْ ذَهَبَ عَنْهُمْ بِمَا يَنْفَعهُمْ وَهُوَ النُّور وَأَبْقَى لَهُمْ مَا يَضُرّهُمْ وَهُوَ الْإِحْرَاق وَالدُّخَان " وَتَرَكَهُمْ فِي الظُّلُمَات " وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الشَّكّ وَالْكُفْر وَالنِّفَاق " لَا يُبْصِرُونَ " لَا يَهْتَدُونَ إِلَى سَبِيل خَيْر وَلَا يَعْرِفُونَهَا .
الطبرى
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَكَيْفَ قِيلَ : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْهَاء وَالْمِيم مِنْ قَوْله : { مَثَلهمْ } كِنَايَة جَمَاعَة مِنْ الرِّجَال أَوْ الرِّجَال وَالنِّسَاء . و " الَّذِي " دَلَالَة عَلَى وَاحِد مِنْ الذُّكُور ؟ فَكَيْف جَعَلَ الْخَبَر عَنْ وَاحِد مَثَلًا لِجَمَاعَةٍ ؟ وَهَلَّا قِيلَ : مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا نَارًا ! وَإِنْ جَازَ عِنْدك أَنْ تُمَثِّل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ فَتُجِيز لِقَائِلٍ رَأَى جَمَاعَة مِنْ الرِّجَال فَأَعْجَبَتْهُ صُوَرهمْ وَتَمَام خَلْقهمْ وَأَجْسَامهمْ أَنْ يَقُول : كَأَنَّ هَؤُلَاءِ , أَوْ كَأَنَّ أَجْسَام هَؤُلَاءِ , نَخْلَة ! ! . قِيلَ : أَمَّا فِي الْمَوْضِع الَّذِي مِثْل رَبّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَمَاعَة مِنْ الْمُنَافِقِينَ بِالْوَاحِدِ الَّذِي جَعَلَهُ لِأَفْعَالِهِمْ مَثَلًا فَجَائِز حَسَن ...
وَقَدْ زَعَمَ بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة مِنْ أَهْل الْبَصْرَة أَنَّ " الَّذِي " فِي قَوْله : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } بِمَعْنَى " الَّذِينَ " كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَاَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ }
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : إنَّك ذَكَرْت أَنَّ مَعْنَى قَوْل اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله } : خَمَدَتْ وَانْطَفَأَتْ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي الْقُرْآن , فَمَا دَلَالَتك عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ ؟ قِيلَ : قَدْ قُلْنَا إنَّ مِنْ شَأْن الْعَرَب الْإِيجَاز وَالِاخْتِصَار إذَا كَانَ فِيمَا نَطَقَتْ بِهِ الدَّلَالَة الْكَافِيَة عَلَى مَا حَذَفَتْ وَتَرَكَتْ , كَمَا قَالَ أَبُو ذويب الْهُذَلِيّ : عَصَيْت إلَيْهَا الْقَلْب إنِّي لِأَمْرِهَا سَمِيع فما أَرَى أَرُشْد طِلَابهَا يَعْنِي بِذَلِكَ : فَمَا أَدْرِي أَرُشْد طِلَابهَا أَمْ غَيّ , فَحَذَفَ ذِكْر " أَمْ غَيّ " , إذْ كَانَ فِيمَا نَطَقَ بِهِ الدَّلَالَة عَلَيْهَا . وَكَمَا قَالَ ذُو الرِّمَّة فِي نَعْت حِمْيَر : فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْل أَوْ حِين نَصَّبَتْ لَهُ مِنْ خَذَا آذانها وهو جَانِح يَعْنِي : أَوْ حِين أَقَبْل اللَّيْل . فِي نَظَائِر لِذَلِكَ كَثِيرَة كَرِهْنَا إطَالَة الْكِتَاب بِذِكْرِهَا . فَكَذَلِكَ قَوْله : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله } لَمَّا كَانَ فِيهِ وَفِيمَا بَعْده مِنْ قَوْله : { ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ } دَلَالَة عَلَى الْمَتْرُوك كَافِيَة مِنْ ذِكْره اخْتَصَرَ الْكَلَام طَلَب الْإِيجَاز . وَكَذَلِكَ حَذْف مَا حَذَفَ وَاخْتِصَار مَا اخْتَصَرَ مِنْ الْخَبَر عَنْ مَثَل الْمُنَافِقِينَ بَعْده , نَظِير مَا اخْتَصَرَ مِنْ الْخَبَر عَنْ مَثَل الْمُسْتَوْقِد النَّار ; لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام : فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ بَعْد الضِّيَاء الَّذِي كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ الْإِقْرَار بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ لِغَيْرِهِ مُسْتَبْطِنُونَ , كَمَا ذَهَبَ ضَوْء نَار هَذَا الْمُسْتَوْقِد بِانْطِفَاءِ نَاره وَخُمُودهَا فَبَقِيَ فِي ظُلْمَة لَا يُبْصِر , وَالْهَاء وَالْمِيم فِي قَوْله : { ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ } عَائِدَة عَلَى الْهَاء وَالْمِيم فِي قَوْله : { مَثَلهمْ } .
القرطبى
وَالضَّمِير فِي " نُورهمْ " عَائِد عَلَى " الَّذِي " , وَعَلَى هَذَا الْقَوْل يَتِمّ تَمْثِيل الْمُنَافِق بِالْمُسْتَوْقِدِ ; لِأَنَّ بَقَاء الْمُسْتَوْقِد فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِر كَبَقَاءِ الْمُنَافِق فِي حِيرَته وَتَرَدُّده .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire